أعرف مسبقا أن التطرق لمثل هذا الموضوع ربما يشوبه بعض الاستعجال؛ سيما و أن علم أمن المعلومات لا يزال يحبو في مراحله الأولى، و تطوره في المملكة العربية السعودية بحاجة الى وقت طويل و تراكم مدروس للخبرات..
إلا أن ما دفعني لكتابة مثل هذا الموضوع هو ما لمسته من ممارسات هي أقرب للاحتكار لهذا العلم و من قبل جهات و أشخاص هم في غالبيتهم غير متخصصين تخصصا أكاديميا في هذا المجال. و بات غير واحد (في السعودية بالتحديد) يدعي وصايته على هذا العلم و بل ربما حتى على المتخصصين فيه، بشكل يدعو للسخرية تارة و يدعو للحزن تارة أخرى على ما آلت إليه الأوضاع في مجتمع كان قدره أن لا ينعم بشئ من صور الانفتاح الاقتصادي إلا ان يمارس الاحتكار عليه في كل شئ.. بدءا من العرض التلفزيوني لمباريات منتخبه الوطني و وصولا إلى مصادر العلوم الأكاديمية النادرة..
علم أمن المعلومات، كباقي أفرع العلم الأخرى، يجب أن يقود السعي في تطويره أكاديميون و خبراء متخصصون.. من خلال البحث الأكاديمي، و الإشراف على التعليم و التدريب المنهجي، و الظهور الإعلامي المقنن، و نشر الوعي المعرفي بالطرق الأكاديمية السليمة، و كتابة المقالات المتخصصة.. الخ.
المتخصص الأكاديمي في أمن المعلومات.. هو كالمتخصص الأكاديمي في أي علم دقيق آخر.. يجب أن يكون حاملا لشهادة أكاديمية متخصصة في هذا المجال (بكالوريوس – ماجستير – دكتوراة).. أو على الأقل أن يكون باحثا أكاديميا خبيرا فيه.. لا يكفي أن يحمل شهادة في علوم الحاسابات أو نظم المعلومات أو الشبكات مثلا.. أو أن يكون درس مادة أو اثنتين في هذا المجال ليطرح نفسه كأب روحي لهذا التخصص!
فمن يحمل شهادة في (الطب البشري).. لا يطرح نفسه كمتخصص في جراحة الأعصاب! ..
عليه أولا أن يدرس و يمارس هذا المجال (أي جراحة الأعصاب) قبل أن يسمي نفسه كذلك!
و أنا هنا أتحدث عن أمن المعلومات كعلم أكاديمي صرف.. و لا أقصد الممارسات التجارية أو الأطروحات الإعلامية العائمة، ولا حتى المهارات التطبيقية في هذا المجال.. فهذه من الوارد بطبيعة الحال أن يتميز فيها مهمتون و ممارسون (غير أكاديميين).
و من المثير للدهشة أن تشاهد القدرة الفائقة لغير المتخصصين الأكاديميين على إبراز اسمائهم كخبراء أكاديميين في أمن المعلومات و بشكل مبتكر.. فمنهم من يسمي نفسه “إستشاري” أمن معلومات (على وزن إستشاري أنف و أذن و حنجرة).. و منهم من يسمي نفسه “أخصائي” أمن معلومات (على وزن أخصائي عيون).. إلى غيرها من أساليب ليست بالسهلة حقيقة.. كمحاولة جمع أكبر قدر ممكن من الشهادات التجارية أو التي تمنح من منظمات غير أكاديمية ليتم “صفها” أسفل كل رسالة إلكترونية يقوم بإرسالها.. الخ.
و سأختم بهذه القصه التي ربما تعطيكم تصورا عما يحدث..
تلقيت دعوة شخصية في الأسبوع الماضي من البروفيسور الأمريكي (راج شارمان).. أشار فيها إلى انه تم الإطلاع من قبل لجنة علمية في أمريكا على بعض أوراقي البحثية (و التي حددها بعناوينها و سنوات نشرها).. و أنهم – بناءا على ذلك – قرروا اختياري من ضمن مجموعة قليلة من المتخصصين في مجال (الهوية الإلكترونية) للمساهمة في كتابة كتاب سيكون عنوانه (Digital Identity and Access Management: Technologies and Frameworks)، و ذلك كجزء من خطة الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) لمراجعة سياسة الفضاء السايبيري (Cyberspace Policy Review)..
و قبل أن أشرع بالرد على رسالة البروفيسور شارمان لأشكره و لجنته على حسن ظنهم بي، و احترافيتهم في مجال البحث الأكاديمي.. تذكرت أمرا أطرقت معه متعجبا لوهلة..
كنت قد قمت قبل عامين تقريبا بمراسلة واحدة من كبريات الصحف الملحية في السعودية.. لأطلب نشر مقالة أحسست أنه من واجبي أن أسعى في نشرها للتحذير من خطر (مدقق الأخطاء الإملائية في شريط جوجل) و الذي سبق أن تحدثت عنه في هذه المدونة..
ليأتيني الرد بعد ثلاثة أشهر (نعم.. ثلاثة أشهر!).. من المشرف على الصفحة التقنية في تلك الجريدة.. بالرفض.. و ذلك بدعوى أنه يجب أن يكون لي رصيد كبير من المقالات المنشورة كي يتم نشر مقالتي.. علما بأن تلك الجريدة كانت تنشر مقالات لطلاب في المرحلة الثانوية!
و بالمناسبة.. هذا الصحافي الذي رفض مقالتي.. كان في وقتها.. يحمل شهادة الدبلوم في تطبيقات الحاسب.. لكني لن أتفجأ كثيرا لو عرفت أنه أصبح الآن – و بعد سنتين فقط – يحمل شهادة الدكتوراة عن طريق المراسلة.. لأن هذه - و الشيء بالشيء يذكر - من الوسائل الجديدة للظهور بهيئة المتخصص الأكاديمي..!
شكرا..